أفضل الجامعات العربية أصبحت اليوم محط أنظار الباحثين والطلاب وصناع القرار، ليس فقط داخل الوطن العربي، بل في الأوساط الأكاديمية العالمية كذلك. فبعد سنوات من التحديات والركود في مجال البحث العلمي، بدأت الجامعات العربية تدخل مرحلة جديدة من التطور المعرفي، يشهد لها بارتفاع معدلات النشر العلمي في المجلات المحكمة، وتحقيق شراكات بحثية دولية، والمساهمة في حل مشكلات مجتمعاتها من خلال الأبحاث التطبيقية والابتكار. لم يعد تقييم الجامعات العربية يُبنى فقط على أعداد الطلاب أو البرامج التعليمية، بل بات يعتمد بشكل كبير على مدى قدرتها على الإنتاج العلمي المؤثر، وجودة مخرجاتها البحثية، وموقعها في التصنيفات الدولية المعتمدة
لقد شهد العالم العربي في العقود الأخيرة تحولات كبيرة في البنية التحتية التعليمية، خصوصًا مع بروز دول مثل المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، وقطر كلاعبين رئيسيين في الاستثمار بالتعليم العالي والبحث العلمي. وفي الوقت نفسه، واصلت دول أخرى مثل مصر والأردن ولبنان تقديم نماذج ناجحة رغم محدودية الموارد، مما ساعد على بناء مشهد بحثي عربي متعدد الأقطاب ومتنوع في الاتجاهات. وعلى الرغم من الفروقات الاقتصادية والجغرافية بين الدول، فإن هناك قاسماً مشتركاً واضحاً بين أفضل الجامعات العربية يتمثل في التزامها الجاد بتعزيز البحث العلمي، والتوسع في النشر الدولي، وتبني معايير الجودة والابتكار
وفي سياق المنافسة العالمية، بات من الضروري أن تنظر الجامعات العربية إلى البحث العلمي ليس كمجال ترف أو رفاهية أكاديمية، بل كضرورة استراتيجية لبناء الاقتصاد المعرفي، وتحقيق التنمية المستدامة، وتعزيز مكانة المنطقة في الإنتاج العالمي للمعرفة. ولهذا فإن التصنيفات الأكاديمية العالمية مثل تصنيف Times Higher Education، وتصنيف QS، وغيرها من المؤشرات، أصبحت أدوات فعالة لقياس تقدم الجامعات العربية على هذا الصعيد. ومن خلال هذه التصنيفات، يمكن فهم الاتجاهات، ورصد النجاحات، وتحديد مجالات التحسين
في هذا المقال، نلقي نظرة معمّقة على أفضل الجامعات العربية في البحث العلمي والنشر الدولي، معتمدين على أحدث البيانات من التصنيفات الدولية، وتحليل الأداء البحثي للمؤسسات الأكاديمية في العالم العربي، مع تسليط الضوء على مراكز القوة، وأبرز التخصصات، والتحديات التي لا تزال قائمة، بالإضافة إلى توصيات عملية لتعزيز مكانة البحث العلمي العربي عالميًا
أهمية التصنيفات العالمية في قياس أداء البحث العلمي

التصنيفات العالمية للجامعات أصبحت مؤشرًا دقيقًا لقياس التقدم العلمي والبحثي للمؤسسات الأكاديمية. ويعتمد العديد من هذه التصنيفات على مؤشرات موضوعية مثل عدد الأوراق العلمية المنشورة، نسبة الاستشهادات، التمويل البحثي، والشراكات الدولية. من بين هذه التصنيفات نجد:
تصنيف Times Higher Education (THE) للجامعات العربية

يعتمد تصنيف THE على مجموعة من المحاور الرئيسية تشمل جودة التعليم، بيئة البحث، تأثير الأبحاث، التعاون الدولي، والسمعة الأكاديمية. ويولي اهتمامًا خاصًا ببيئة البحث العلمي من حيث الإنتاجية، الاستشهادات، والتمويل. في أحدث نسخة من التصنيف، تصدّرت جامعات سعودية المراتب الأولى بشكل ملحوظ، ما يدل على استثمار ضخم ومستمر في البحث والابتكار. وقد جاء ترتيب الجامعات العشر الأُوَل على النحو التالي:
- جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (KAUST) – السعودية
- جامعة الملك فهد للبترول والمعادن (KFUPM) – السعودية
- جامعة الملك سعود – السعودية
- جامعة قطر – قطر
- جامعة الملك عبد العزيز – السعودية
- جامعة خليفة – الإمارات
- جامعة الإمارات العربية المتحدة – الإمارات
- جامعة القاهرة – مصر
- الجامعة الأردنية – الأردن
- جامعة الملك خالد – السعودية
هذا التصنيف يُظهر هيمنة سعودية واضحة على المراكز الأولى، مع دخول قوي من قطر والإمارات ومصر والأردن، مما يعكس ديناميكية المشهد الأكاديمي العربي..
تصنيف QS الإقليمي للجامعات العربية

يعتمد تصنيف QS لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على معايير مثل السمعة الأكاديمية، نسبة أعضاء هيئة التدريس للطلاب، عدد الأوراق البحثية لكل أستاذ، الشبكة البحثية الدولية، ومعدل توظيف الخريجين. وحسب تصنيف العام 2025، حافظت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن على الصدارة، تليها جامعة قطر، ثم جامعة الملك سعود. وأظهرت جامعات الإمارات ومصر تقدمًا ملحوظًا في بعض المؤشرات مثل الشبكات البحثية والتعاون الدولي. ما يميز هذا التصنيف أنه لا يكتفي بقياس الناتج البحثي، بل يهتم أيضًا بتأثير الجامعة على المستوى الإقليمي والاقتصادي.
تصنيف AURanking التابع لاتحاد الجامعات العربية

يُعد هذا التصنيف من المبادرات الإقليمية التي تهدف إلى تقديم بديل عربي للتصنيفات العالمية. يركز على محاور التعليم، البحث العلمي، الابتكار، والتعاون المحلي والدولي. ووفقًا لآخر إصدار، احتلت جامعة الملك سعود المرتبة الأولى، تلتها جامعة القاهرة، ثم جامعة الإمارات، ثم عين شمس، ثم جامعة المنصورة. هذا التصنيف يُبرز أهمية جامعات مصر في البحث والابتكار، رغم التحديات التمويلية والبنية التحتية، ويدل على كفاءة بشرية عالية وكثافة بحثية واضحة.
أفضل الجامعات العربية في البحث العلمي والنشر الدولي

جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية – KAUST
تأسست عام 2009 بمبادرة ملكية، وأصبحت في غضون سنوات قليلة مركزًا إقليميًا وعالميًا للتميز البحثي. تعتمد على نظام تعليمي إنجليزي بالكامل وتستقطب باحثين دوليين من مختلف الجنسيات. يُعد مركز أبحاث البحر الأحمر من أبرز معالمها البحثية، إلى جانب برامجها المتقدمة في علوم المواد، الطاقة، والذكاء الاصطناعي. وتتميز ببيئة بحثية متكاملة، حيث تمثل النسبة الكبرى من منشوراتها العلمية في مجلات مصنفة ضمن الربع الأول Q1، وهو أعلى تصنيف في مجال النشر الأكاديمي.
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن – KFUPM
من أعرق الجامعات السعودية، وهي تتصدر باستمرار التصنيفات الإقليمية والدولية بفضل تركيزها العالي على الأبحاث التطبيقية في مجالات الطاقة، هندسة البترول، الذكاء الاصطناعي، والهندسة الكيميائية. تحتضن الجامعة أكثر من عشرة مراكز بحثية متخصصة وتُنتج آلاف الأوراق البحثية سنويًا، معظمها في مجلات ذات معامل تأثير مرتفع. كما دخلت قائمة أفضل 100 جامعة عالميًا في تصنيف QS الأخير، وهي إنجاز غير مسبوق لجامعة عربية حكومية.
جامعة الملك سعود
أكبر جامعة في المملكة من حيث عدد الطلاب وعدد أعضاء هيئة التدريس، وهي رائدة في البحث العلمي الطبي، والهندسي، والعلوم الإنسانية. تمتلك المدينة الطبية التابعة لها نظامًا بحثيًا متطورًا للغاية. كما تتصدر الجامعات السعودية في عدد براءات الاختراع المسجلة سنويًا. وتشارك بفعالية في المجلات المحكمة والمؤتمرات الدولية، ولديها تعاون بحثي مع جامعات أمريكية وكندية وأوروبية مرموقة.
جامعة الملك عبد العزيز
تُعد من الجامعات متعددة التخصصات، وتتفوق في مجالات علوم البحار، الطب، الهندسة المدنية، والعلوم البيئية. تحتوي على مجمع ضخم من المعاهد البحثية، وتدير مشاريع بحثية ممولة من قبل شركات كبرى وصناديق وطنية. تسجل عددًا كبيرًا من الأبحاث سنويًا، ويشهد لها بتنوع مواضيعها وثراء تعاونها الدولي، خاصة مع جامعات في آسيا وأمريكا.
جامعة قطر
الجامعة الوطنية الوحيدة في دولة قطر، ومع ذلك فهي ضمن أفضل خمس جامعات عربية من حيث البحث العلمي. تمتاز بتركيزها على الأبحاث الاستراتيجية ذات الصلة بالتنمية الوطنية مثل أمن الطاقة، التنمية الاجتماعية، والسياسات العامة. لديها شراكات قوية مع المؤسسات الحكومية وشركات النفط والغاز، إضافة إلى تمويل داخلي كبير يوجه لدعم الباحثين الشباب والمشاريع المشتركة.
جامعة الإمارات العربية المتحدة
تأسست عام 1976 كأول جامعة وطنية في دولة الإمارات، وهي تُعد الأقدم والأكثر تطورًا من الناحية البحثية. تضم أكثر من 12 مركزًا بحثيًا وتدير برامج بحثية متعددة التخصصات، تتضمن الطاقة المتجددة، الصحة العامة، علوم الفضاء، والابتكار الزراعي. كما تنخرط في شراكات عالمية مع جامعات مرموقة، وتمنح دعمًا سخيًا لبرامج الدكتوراه والباحثين المتميزين.
جامعة خليفة
تُعد من أحدث الجامعات الإماراتية وأكثرها طموحًا، وهي متخصصة بشكل كبير في الهندسة، التكنولوجيا، والعلوم التطبيقية. تقع في أبوظبي وتدير عددًا كبيرًا من المشاريع البحثية بتمويل من الحكومة والصناعة، كما تشارك في برامج دولية استراتيجية مثل استكشاف الفضاء والذكاء الاصطناعي الطبي. وقد حصلت على تصنيفات عالية في مؤشرات النشر والاستشهادات.
جامعة القاهرة
رغم التحديات التمويلية والبنية التحتية، فإن جامعة القاهرة تحتفظ بموقع مرموق بين الجامعات العربية والأفريقية في مجال البحث العلمي. تُعد من أكبر الجامعات من حيث عدد الأوراق العلمية المنشورة، وتتمتع بكثافة بحثية عالية في مجالات الطب، القانون، الآثار، والهندسة. كما حصلت على مراكز متقدمة في تصنيفات عالمية متخصصة في التخصصات مثل طب الأسنان، الهندسة الميكانيكية، والفيزياء.
الجامعة الأردنية
أقدم الجامعات الأردنية وأكثرها شمولاً من حيث التخصصات، وهي تشكل مركزًا أكاديميًا مهمًا في بلاد الشام. تمتلك معامل ومراكز أبحاث في العلوم الصيدلانية، الهندسة، والعلوم الإنسانية. في السنوات الأخيرة، بدأت الجامعة تعزز من استراتيجيات النشر الدولي، وتقدم دعمًا أكبر لطلاب الدراسات العليا، مما انعكس على ازدياد ملحوظ في أعداد الأبحاث المنشورة في مجلات عالمية.
جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية
جامعة متخصصة في العلوم والهندسة والطب، وتُعد من الجامعات الأردنية ذات الأداء البحثي الأعلى. لديها شراكات دولية مع مؤسسات بحثية في أمريكا وأوروبا، وتشارك في برامج تمويل دولية مثل Horizon Europe. تبرز في مجالات الهندسة الحيوية، الزراعة الذكية، والتقنيات الطبية، ولديها معامل متطورة تستقطب الباحثين من داخل وخارج الأردن. وتتميز الجامعة بمعدل نشر علمي مرتفع مقارنة بعدد أعضاء هيئة التدريس، كما أنها تتصدر التصنيفات الوطنية من حيث عدد الاستشهادات لكل ورقة علمية. وتولي إدارة الجامعة أهمية خاصة لتعزيز النشر في المجلات المصنفة ضمن الربع الأول والثاني (Q1 وQ2) في قاعدة Scopus، كما تشجع على المشاركة الفاعلة في المؤتمرات الدولية.
أظهرت الجامعة مرونة كبيرة في مواكبة التحول الرقمي في التعليم والبحث، حيث أنشأت وحدات دعم فني للباحثين، وأطلقت مبادرات لتدريب طلبة الدراسات العليا على مهارات الكتابة العلمية والنشر الدولي. كما تُعد مركزاً وطنياً في أبحاث المياه والبيئة، وتعمل على تطوير تقنيات الاستدامة بالتعاون مع منظمات دولية مثل اليونسكو وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وتمثل الجامعة نموذجاً ناجحاً في توجيه البحث العلمي نحو معالجة التحديات التنموية المحلية، مثل الأمن الغذائي والطاقات المتجددة، ما جعلها من أبرز الجامعات العربية في توظيف البحث العلمي لخدمة المجتمع والسياسات العامة.
تحليل الاتجاهات البحثية في الجامعات العربية

جامعات الخليج تقود المشهد البحثي العربي
تشير البيانات المستخلصة من مختلف التصنيفات إلى أن جامعات الخليج، خصوصاً في السعودية والإمارات، أصبحت القوة البحثية الأهم في العالم العربي. هذا التحول لم يكن تلقائياً، بل جاء نتيجة استراتيجيات مدروسة تبنتها هذه الدول لتعزيز التعليم والبحث كجزء من رؤاها المستقبلية. فالمملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، خصصت ميزانيات ضخمة في إطار رؤية 2030 لدعم الجامعات وتحفيز مراكز البحوث وتأسيس كراسي بحثية متخصصة، الأمر الذي انعكس على الأداء البحثي لمؤسسات مثل جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن. كما أن وجود بنية تحتية رقمية متقدمة، ودعم حكومي لتشجيع التعاون الدولي، ساهما في تسريع وتيرة النشر الدولي وجودته
في الإمارات، تبنت الجامعات مثل خليفة والإمارات نموذجاً متميزاً يركز على التخصص الدقيق في علوم المستقبل مثل الذكاء الاصطناعي، الطاقة النظيفة، والتقنيات الطبية، وهو ما عزز إنتاجها البحثي وجعلها وجهة للباحثين من مختلف دول العالم. ويظهر أن دول الخليج تميل أكثر إلى تمويل المشاريع البحثية التطبيقية التي تخدم أهداف التنمية الوطنية، وهو توجه يعكس نضج السياسات التعليمية
الجامعات المصرية والأردنية بين التحديات والإصرار
رغم وجود تحديات كبيرة تتعلق بالتمويل ومحدودية الموارد في مصر والأردن، إلا أن جامعات هذه الدول، وعلى رأسها جامعة القاهرة وجامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، أثبتت قدرة عالية على المنافسة العلمية. هذا الصمود البحثي يعكس جودة الكوادر الأكاديمية، حيث تخرّج الجامعات المصرية والأردنية أعداداً كبيرة من الباحثين الذين يسهمون بدور فعّال في النشر العلمي الدولي. ومن اللافت أن نسبة كبيرة من الأبحاث المنشورة من هذه الجامعات تأتي من جهود فردية أو مشاريع صغيرة مدعومة محلياً، ومع ذلك تتمكن من النشر في مجلات عالمية مرموقة، ما يدل على جودة العمل العلمي ومهارة الباحثين
جامعة القاهرة، كمثال بارز، تميزت في السنوات الأخيرة في تخصصات متنوعة، مثل الطب والهندسة والعلوم الاجتماعية، واستطاعت أن تدخل ضمن أفضل 500 جامعة في تصنيفات بعض التخصصات. وفي الأردن، أصبحت جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية من المراكز البحثية الرائدة في مجالات الزراعة الذكية، الهندسة الحيوية، والتقنيات الطبية، وأظهرت ثباتاً واضحاً في تصنيفات الجامعات العالمية على الرغم من قلة الدعم المادي مقارنة بدول الخليج
التخصصات البحثية الرائدة في الجامعات العربية
عند تحليل مجالات النشر العلمي في الجامعات العربية، يتضح أن هناك تركيزاً على عدد من التخصصات الاستراتيجية المرتبطة بالتنمية المستدامة. تأتي الهندسة، وعلوم الحاسوب، والطب، والفيزياء، والطاقة، والذكاء الاصطناعي، في صدارة الموضوعات الأكثر تناولاً. ففي جامعات السعودية والإمارات، يبرز الاهتمام بالذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، الطاقة المتجددة، والتقنيات المتقدمة في الطب. أما في مصر والأردن، فهناك اهتمام ملحوظ بالعلوم الطبية، الزراعة، الصيدلة، والعلوم الاجتماعية
من أبرز المجالات التي تطورت بسرعة في السنوات الأخيرة: الطب الجزيئي، الجينات، تكنولوجيا النانو، الحوسبة السحابية، وأنظمة الطاقة الشمسية. هذه المجالات لا تخدم فقط الأجندات الوطنية، بل تساهم أيضاً في التصنيف الدولي للجامعات من خلال معدلات الاستشهاد المرتفعة وجودة المجلات المنشورة فيها
التحول نحو البحث متعدد التخصصات
تشير الاتجاهات البحثية في الجامعات العربية الكبرى إلى اعتماد واسع النطاق على مبدأ البحث متعدد التخصصات. لم تعد الأبحاث تقتصر على مجال أكاديمي ضيق، بل تتلاقى مجالات مثل الهندسة والطب، أو التكنولوجيا والتعليم، أو الطاقة والبيئة، لإنتاج معرفة متكاملة وقابلة للتطبيق. ففي جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، على سبيل المثال، تشجع البيئة الأكاديمية على دمج تخصصات مثل علوم الحاسوب والبيئة البحرية في مشروعات بحثية مشتركة، مما ينتج أعمالاً علمية مؤثرة وذات استشهادات عالية
هذا النمط من البحث يُعتبر أحد أهم مؤشرات تقدم المؤسسات الأكاديمية، لأنه يعكس وعياً بأهمية الحلول الشاملة والمعقدة للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية، كما يتيح فرصاً أكبر للتعاون الدولي ونقل المعرفة
التحديات التي ما زالت تواجه البحث العلمي العربي
رغم التقدم الملحوظ، إلا أن الجامعات العربية لا تزال تواجه عدداً من التحديات البنيوية والمؤسسية التي تحد من انطلاقتها الكاملة في عالم البحث العلمي. من بين هذه التحديات: ضعف ثقافة النشر العلمي في بعض المؤسسات، البيروقراطية الإدارية، نقص التمويل في الجامعات العامة، محدودية عدد المجلات العربية المحكمة المصنفة دولياً، وغياب سياسات واضحة لدعم النشر الأكاديمي المستمر. كما أن كثيراً من الجامعات تفتقر إلى وجود قواعد بيانات داخلية تحلل إنتاجها العلمي وتحفز الباحثين من خلال مؤشرات أداء واضحة
كذلك، لا يزال هناك ضعف نسبي في مشاركة القطاع الصناعي والخاص في تمويل البحث العلمي، باستثناء بعض الدول الخليجية. هذا الانفصال بين الأوساط الأكاديمية والصناعية يقلل من فرص تطوير حلول ابتكارية قابلة للتطبيق، ويحد من الإمكانات التكنولوجية في كثير من الدول العربية
توصيات لتعزيز البحث العلمي والنشر الدولي في الجامعات العربية

- زيادة الاستثمار في البحث العلمي: لا يمكن للجامعات أن تحقق تقدماً بحثياً دون تمويل مستدام. على الحكومات العربية أن تخصص نسباً أكبر من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث العلمي، خصوصاً في ظل التحول نحو الاقتصاد المعرفي. وينبغي أن يُخصص هذا التمويل لدعم البنية التحتية، الأجهزة المخبرية، ورواتب الباحثين والطلبة
- تشجيع الباحثين على النشر في المجلات المحكمة ذات معامل التأثير العالي: يمكن تحقيق ذلك عبر حوافز مالية وأكاديمية، مثل الترقية، الجوائز، أو منح الوقت للبحث. كما يجب تنظيم ورش تدريبية دائمة حول آليات النشر، أدوات الاستشهاد، وتقنيات الكتابة الأكاديمية
- تعزيز الشراكات البحثية الدولية: الجامعات التي تتعاون مع مؤسسات دولية تكون فرصتها أكبر في النشر والاستشهاد. من الضروري توقيع اتفاقيات تعاون مع جامعات في أوروبا، أمريكا، وآسيا، وتبادل الباحثين والطلبة على مستوى الماجستير والدكتوراه
- إطلاق حاضنات بحثية وريادية داخل الجامعات: تشجيع ثقافة الابتكار يتطلب بيئة حاضنة للأفكار والمشاريع الناشئة. يمكن تأسيس حاضنات للطلبة والباحثين لتطوير مشاريعهم البحثية وتحويلها إلى منتجات أو خدمات بالتعاون مع القطاع الخاص
- تطوير السياسات المؤسسية للبحث العلمي: يجب أن يكون لكل جامعة خطة بحثية استراتيجية تتوافق مع أولويات الدولة وتحتوي على مؤشرات أداء واضحة. هذه الخطة ينبغي أن تشمل مراجعة سنوية للإنجازات وتحديد نقاط القوة والضعف
- ربط البحث العلمي بسوق العمل والتنمية: يجب على الجامعات التركيز على الأبحاث التطبيقية التي تخدم التنمية المستدامة، كأبحاث الطاقة، الصحة، الأمن الغذائي، والمياه. ربط البحث باحتياجات المجتمع يجعل منه أكثر قيمة وتأثيراً
- تحسين بيئة العمل البحثية: من خلال تخفيض العبء التدريسي على أعضاء هيئة التدريس، وتوفير الوقت الكافي للبحث، إضافة إلى تسهيل الإجراءات الإدارية المتعلقة بالحصول على التمويل، والموافقة على المشاريع، والسفر الأكاديمي.
إن الوصول إلى العالمية في مجال البحث العلمي لم يعد حلمًا بعيد المنال بالنسبة للجامعات العربية، بل أصبح هدفًا قابلًا للتحقيق على أرض الواقع، كما أثبتت ذلك العديد من النماذج في المنطقة. لقد بدأت ملامح هذا التحول تبرز بوضوح من خلال الارتفاع في عدد الأبحاث المنشورة دوليًا، وزيادة التعاون مع مؤسسات أكاديمية مرموقة عالميًا، فضلًا عن تطور البنية التحتية للبحث العلمي في بعض الدول.
لكن هذه الإنجازات، على أهميتها، ليست سوى الخطوة الأولى في طريق طويل يتطلب استدامة الجهد، ووضوح الرؤية، وشجاعة التغيير. فالعالم الأكاديمي لا يعترف إلا بالمؤسسات التي تضع البحث والإبداع في صميم رسالتها، وتتعامل مع التحديات كفرص للتطور لا كعقبات للتراجع.
ولذلك، فإن الجامعات العربية مدعوة اليوم إلى تبنّي نهج أكثر انفتاحًا على التجارب العالمية، وإلى تعزيز ثقافة البحث لا بوصفه مجرد وسيلة للنشر أو الترقية، بل كركيزة أساسية للتنمية المجتمعية والمعرفية. كما أن تشجيع التعاون الإقليمي والدولي، وتحفيز الباحثين، وتوفير بيئة علمية محفّزة يجب أن تصبح أولوية قصوى.
ومع أن الطريق لا يخلو من التحديات، إلا أن المؤشرات الحالية تبعث على التفاؤل. وإذا ما استمرت الجامعات العربية على هذا النهج التصاعدي، مع دعم حقيقي من السياسات العامة والمجتمع، فإنها لن تكتفي فقط بمجرد الحضور على الخارطة الأكاديمية العالمية، بل سيكون لها دور مؤثر وشريك فاعل في صياغة مستقبل المعرفة عالميًا.